فصل: باب أخذ الصدقة ومن يجوز له أخذه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب صدقة الخلطاء

555- ذكر مالك مذهبه في موطئه في هذا الباب ومعناه أن الخليطين لا يزكيان زكاة الواحد حتى يكون لكل واحد منهما نصاب فإذا كان ذلك واختلطا بغنمهما في الدلو والحوض والمراح والراعي والفحل فهما خليطان يزكيهما الساعي زكاة الواحد ثم يترادان على كثرة الغنم وقلتها فإن كان لأحدهما دون النصاب لم يؤخذ منه شيء ولم يرجع عليه صاحبه شيء وإذا ورد الساعي على الخليطين بما ذكرنا من أوصافهما زكاهما ولم يراع مرور الحول عليهما كاملا وهما خليطان وإنما يراعى مرور الحول على كل واحد منهما ولو اختلطا قبل تمام الحول بشهر أو نحوه إذا وجدهما خليطين زكاهما زكاة المنفرد واختلف أصحابه في مراعاة الدلو والحوض والمراح والفحل والراعي فقال بعضهم لا يكونان خليطين إلا ثلاثة أوصاف من ذلك وقال بعضهم إذا كان الراعي واحدا فعليه مراد الخلطة‏.‏

وقال مالك في الخليطين في الإبل والبقر إنهما بمنزلة الخليطين في مراعاة النصاب لكل واحد منهما واحتج مالك بأن الخليطين لا يزكيان زكاة الواحد إلا إذا كان لكل واحد منهما نصاب بقوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة وقول عمر بن الخطاب ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ وفي سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاة شاة قال مالك وهذا أحب ما سمعت في هذا إلي قال أبو عمر قوله وهذا أحب ما سمعت إلي يدل على علمه بالخلاف فيها وأن الخلاف كان بالمدينة قديما وقول أبي ثور في الخلطاء كقول مالك سواء واحتج بنحو حجته في ذلك ومن حجة من قال بقول مالك أيضا في الخلطاء إجماع الجميع على أن المنفرد لا تلزمه زكاة في أقل من أربعين من الغنم واختلفوا في الخليط بغيره لغنمه ولا يجوز أن ينقض أصل مجتمع عليه برأي مختلف فيه وقال أصحاب الشافعي ليس في ذلك رأي وإنما هو توقيف عمن يجب التسليم له واحتجوا بقوله ‏(‏عليه الصلاة والسلام‏)‏ لا يجتمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية وقوله ‏(‏عليه الصلاة والسلام‏)‏ في خمس من الإبل شاة وفي أربعين من الغنم شاة لم يفرق بين الغنم المجتمعة في الخلطة لمالكين أبو لمالك واحد قال الشافعي ولما لم يختلف السلف القائلون في أربعين شاة شاة أن الخلطاء في مائة وعشرين شاة ليس عليهم فيها إلا شاة واحدة دل ذلك على أن عدة الماشية المختلطة لا ملك المالك والله أعلم‏.‏

وقال الشافعي الذي لا شك فيه أن الخليطين الشريكين لم يقتسما الماشية وتراجعهما بالسوية أن يكونا خليطين في الإبل فيها الغنم فتؤخذ الإبل في يد أحدهما فيؤخذ منها صدقتها ويرجع على شريكه بالسوية لما جاء في الحديث وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية قال وقد يكون الخليطان الرجلين يتخالطان بماشيتهما وإن عرف كل واحد منهما ماشيته ولا يكونان خليطين حتى يريحا ويحلبا ويسرحا ويسقيا معا فحلهما واحد فإذا كان هكذا صدقا صدقة الرجل الواحد لكل حول قال ولا يكونان حولين حتى يحول عليهما الحول من يوم اختلطا ويكونا مسلمين وإن افترقا في مراح ومسرح أو سقي أو فحول قبل الحول فليسا بخليطين ويصدقان صدقة الاثنين وكذلك إذا كانا شريكين ولا يراعي الشافعي النصاب لكل واحد منهما ولو اختلط عنده أربعة رجال أو أكثر أو أقل في أربعين شاة كان عليهم فيها شاة بمرور الحول وروي ذلك عن عطاء قال الشافعي ولما لم أعلم مخالفا إذا كان ثلاثة خلطاء لهم مائة وعشرون شاة أن عليهم فيها شاة واحدة وأنهم يصدقون صدقة الواحد ينتقصون المساكين شاتين من مال الخلطاء الثلاثة الذين لم يفرق مالهم كان فيه ثلاث شياه لم يجز إلا أن يقال لو كانت أربعون بين ثلاثة رجال كان عليهم شاة لأنهم خلطاء صدقوا صدقة الواحد قال وبهذا أقول في الماشية كلها ‏!‏ والزرع قال أبو عمر يريد لما لم يكن على الخلطاء في أربعين شاة وغيره الخلطة فريضة المنفرد وجب أن يعتبر النصاب بينهم نصاب الواحد كما يزكون زكاة الواحد قال ولو أن حائطا كان موقوفا حبسا على مائة إنسان ولم يخرج إلا عشرة أوسق أخذت منه صدقة كصدقة الواحد ويقول الشافعي في الخلطة بقول الليث وأحمد وإسحاق قال أحمد إذا اختلط جماعة في خمسة من الإبل أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم وكان مرعاهم ومسرحهم ومبيتهم ومحلبهم وفحلهم واحدا أخذ منهم الصدقة وتراجعوا فيما بينهم بالحصص واختلفوا في غير الماشية أخذ من كل واحد على انفراده إذا كانت حصته تجب فيها الزكاة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد الخليطان في المواشي كغير الخليطين لا تجب على واحد منهما فيما يملك منها إلا مثل الذي يجب عليه لو لم يكن خليطا قالوا وكذلك الذهب والفضة والزرع قالوا وإذا أخذ المصدق الصدقة من ماشيتهما تراجعا فيما أخذ منهما حتى تعود ماشيتهما لو لم ينقص من مال كل واحد منهما إلا مقدار ما كان عليه من الزكاة في حصته وتفسير ذلك أن يكون لهما عشرون ومائة شاة لأحدهما ثلثها فلا يجب على المصدق انتظار قيمتها ولكن يأخذ من عرضها شاتين فيكون بذلك أخذ من مال صاحب الثلث شاة وثلثا وإنما كانت عليه شاة وفيها للآخر ثلثا شاة وقد كانت عليه شاة فيرجع صاحب الثلثين على صاحب الثلث ثلث الشاة التي أخذها المصدق من حصته زيادة على الواجب الذي كان عليه فيها فتعود حصة صاحب الثلث إلى تسع وتسعين وحصة صاحب الثلث إلى تسع وثلاثين ولو خالط صاحب عشرين صاحب ستين فالشاة على صاحب الستين لا على صاحب العشرين قال أبو عمر إنما حمل الكوفيون على دفع القول بصدقة الخلطاء أنهم لم يبلغهم ذلك والله أعلم اعتمدوا على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وقوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ في الغنم ليس فيما دون أربعين منها شيء ورأوا أن الخلطة المذكورة تغير هذا الأصل فلم يلتفتوا إليه والله أعلم‏.‏

باب ما جاء فيما يعتد به من السخل في الصدقة

556- مالك عن ثور بن زيد الديلي عن بن لعبد الله بن سفيان الثقفي عن جده سفيان بن عبد الله أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقا فكان يعد على الناس بالسخل فقالوا أتعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه شيئا ‏!‏ فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر له ذلك فقال عمر نعم تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها ‏!‏ ولا تأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم وتأخذ الجذعة والثنية ‏!‏ وذلك عدل بين غذاء الغنم وخياره قال أبو عمر ذكر مالك في الموطأ تفسير الربى والماخض والأكولة وفحل الغنم بما يغني عن ذكره ها هنا وقوله في نصاب الغنم أنه يكمل من أولادها كربح المال سواء ولو كانت عنده ثلاثون شاة حولا ثم ولدت قبل مجيء الساعي بليلة فكملت النصاب أخذ منها - عنده - الزكاة وذلك عنده مخالف لما أفيد منها بشراء أو هبة أو ميراث ومعنى قول مالك هذا أن النصاب عنده يكون بالولادة ولا يكون بالفائدة من غير الولادة لمن كانت عنده ثلاثون من الغنم أو ما دون النصاب ثم اشترى أو ورث أو وهب له ما يكمل به النصاب استأنف بالنصاب حولا وليس كذلك عنده حكم البنات مع الأمهات فإن كان عنده نصاب ماشية قد حال عليه الحول ثم استفاد قبل مجيء الساعي شيئا بغير ولادة زكى ذلك مع النصاب وليس كذلك فائدة العين الصامت عنده وقد تقدم ذلك في بابه‏.‏

وقال الشافعي لا يضمن شيئا من الفوائد إلى غيره ويزكي كل لحوله إلى ما كان من نتاج الماشية مع النصاب وهو قول أبي ثور وقول أبي حنيفة وأصحابه في ذلك كقول مالك‏.‏

وقال الشافعي لا يعد بالسخل إلا أن يكون من غنمه قبل الحول ويكون أصل الغنم أربعين فصاعدا فإذا لم تكن الغنم نصابا فلا يعد بالسخل‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا كان له في أول الحول أربعون صغارا أو كبارا وفي آخره كذلك وجبت فيها الصدقة وإن نقصت في الحول وقال الحسن بن حي يتم الحول بالسخال مع الأمهات ويعتبر الحول من يوم تم النصاب فإن جاء الحول وجبت فيها الزكاة وإذا تمت سخالها أربعين أو زادت عليها بالسخال حتى بلغت ستين أو نحوها فذهب من الأمهات واحدة قبل تمام الحول استقبل بها حولا كما يفعل بالدراهم إذا كانت ناقصة فأفدت إليها تمام النصاب‏.‏

وأما قوله لا يأخذ الربى إلى آخر قوله ذلك فقال مالك إذا كانت كلها ربى أو فحولا أو ماخضا أو بازلا كان لرب المال أن يأتي الساعي بما فيه وفاء حقه جذعة أو ثنية وإن شاء صاحبها أن يعطي منها واحدة كان ذلك له وبه قال أبو حنيفة قال مالك ليس في الإبل في الصدقة مثل الغنم فإن الغنم لا يؤخذ منها إلا جذعة أو ثنية ويؤخذ من الإبل في الصدقة الصغار قال بن الماجشون يأخذ الربى إذا كانت كلها ربى كما يأخذ العجفاء من العجاف قال الشافعي لا يؤخذ في صدقة الإبل ولا في صدقة الغنم من الغنم إلا جذعة من الضأن أو ثنية من المعز ولا يؤخذ أعلى من ذلك إلا أن يتطوع رب المال قال أبو عمر هذا نفس استعمال حديث عمر في الجذعة والثنية وهو كقول مالك سواء واختلفوا إذا كانت الإبل فصلانا والبقر عجولا والغنم سخالا فقال مالك عليه في الغنم شاة ثنية أو جذعة وعليه في الإبل والبقر ما في الكبار منها وهو قول زفر قال بن عبد الحكم من كانت عنده خمس وعشرون سقيا فعليه بنت مخاض وإن كانت أربعون حلوبة فعليه فيها جذعة‏.‏

وقال الشافعي السن التي تؤخذ في الصدقة من الغنم والبقر والإبل الجذعة من الضأن والثنية مما سواها إلا أن تكون صغارا كلها وقد حال عليها حول أمها فإنه يؤخذ منها الصغير قال وحكم البنات حكم الأمهات إذا حال عليها حول الأمهات‏.‏

وقال أبو حنيفة ومحمد لا شيء في الفصلان إذا كان كلها فصلانا ولا في العجول ولا في صغار الغنم لا منها ولا من غيرها وهو قول جماعة من تابعي أهل الكوفة ومن حجتهم ما رواه هشيم عن هلال بن حسان أنه أخبره عن ميسرة بن صالح قال حدثنا سويد بن غفلة قال أتانا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فجلست إليه فسمعته يقول إن عهدي أن لا آخذ من راضع لبن ولا أجمع بين مفترق ولا أفرق بين مجتمع قال وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يأخذها وقال أبو يوسف والثوري والأوزاعي يؤخذ منها إذا كانت خرفانا أو عجولا أو فصلانا ولا يكلف صاحبها أكثر منها وروي عن أبي يوسف أنه قال في خمس فصلان واحدة منها أو شاة واختلفوا في المعيبة كلها عجافا كانت أو مريضة فالمشهور من مذهب مالك أنه يلزم صاحبها أن يأتي بما يجوز ضحية جذعة أو ثنية غير معيبة وروى بن القاسم أن عثمان بن الحكم سأل مالكا عن الساعي يجدها عجافا كلها فقال يأخذ منها قال سحنون وهو قول المخزومي وبه قال مطرف وبن الماجشون قال أبو عمر وهو قول الشافعي وأبي يوسف قال الشافعي لأني إذا كلفته صحيحة كانت أكثر من شاة معيبة فأوجبت عليه أكثر مما وجب عليه قال ولم توضع الصدقة إلا رفقا بالمساكين من حيث لا يضر بأرباب المال‏.‏

وأما قول أبي حنيفة فقوله في المعيبة نحو ذلك‏.‏

وأما الصغار فلا أرى فيها شيئا على ما تقدم والله أعلم‏.‏

باب العمل في صدقة عامين إذا اجتمع

557- قال مالك الأمر عندنا في الرجل تجب عليه الصدقة وإبله مائة بعير فلا يأتيه الساعي حتى تجب عليه صدقة أخرى فيأتيه المصدق وقد هلكت إبله إلا خمس ذود قال مالك يأخذ المصدق من الخمس ذود الصدقتين اللتين وجبتا على رب المال شاتين في كل عام شاة لأن الصدقة إنما تجب على رب المال يوم يصدق ماله فإن هلكت ماشيتة أو نمت فإنما يصدق المصدق زكاة ما يجد يوم يصدق وإن تظاهرت على رب المال صدقات غير واحدة فليس عليه أن يصدق إلا ما وجد المصدق عنده فإن هلكت ماشيته أو وجبت عليه فيها صدقات فلم يؤخذ منه شيء حتى هلكت ماشيته كلها أو صارت إلى ما لا تجب فيه الصدقة فإنه لا صدقة عليه ولا ضمان فيما هلك أو مضى من السنين ومن غير الموطأ وسئل مالك عن رجل كانت له أربعون شاة فلم يأته المصدق ثلاثة أعوام ثم أتاه في العام الرابع وهي أربعون كم يأخذ منها لعامه ذلك وللسنين الماضية فقال مالك يؤخذ منها شاة واحدة قال ولو كانت ثلاثا وأربعين أخذ منها ثلاث شياه أيضا وإن كانت إحدى وأربعين أخذ منها شاتين‏.‏

وقال الشافعي كقول مالك قال أحب إلي في الأربعين أن يؤدي عنها في كل سنة شاة إذا كانت لم تنقص في كل سنة عن أربعين لأنه قد حالت عليها أحوال وهي كلها أربعون هذا قوله في الكتاب المصري وقال في البغدادي في الرجل الذي تكون عنده عشر من الإبل فيتركها سنين أنه يؤخذ منها في السنين كلها لأن صدقتها من غيرها وقال في الأربعين والثلاث والأربعين إذا تركها صاحبها فلم يزكها سنين كقول مالك وأصحابه في ذلك وما استحبه الشافعي في أن يؤخذ من الأربعين أربع شياه كأنه قد أخذ من الساعي شاة في العام الأول ثم أتى في الثاني فوجدها أربعين ثم في الثالث والرابع مثل ذلك وهو معنى قول مالك في الهارب بماشيته من الساعي وقال أبو يوسف وأبو حنيفة ومحمد من كانت عنده عشر من الإبل فلم يزكها سنين فإنه عليه في السنة الأولى شاتين وفي الثانية شاة قال أبو عمر جعلوا الشاة المأخوذة من الخمس ذود كأنها منها فنقصت لذلك عن نصابها وقالوا في الغنم إذا كان لواحد عشرون ومائة شاة وأتى عليها سنتان لم يزكها فإن عليها زكاة سنتين في كل سنة شاة ولو كانت إحدى وعشرين ومائة ولم يزكها سنة فإن عليه للسنة الأولى شاتين وللسنة الثانية شاة‏.‏

وقال أبو ثور إذا كانت لرجل عشر من الإبل فحال عليها حولان فإن فيها أربعا من الغنم وذلك أن زكاتها من غيرها وليس زكاتها منها تنتقص‏.‏

باب النهي عن التضييق على الناس في الصدقة

558- ذكر فيه مالك حديث عائشة ‏(‏رضي الله عنهما‏)‏ أنها قالت مر على عمر بن الخطاب بغنم من الصدقة فرأى فيها شاة حافلا ذات ضرع عظيم فقال عمر ما هذه الشاة فقالوا شاة من الصدقة فقال عمر ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون لا تفتنوا الناس لا تأخذوا حزرات المسلمين نكبوا عن الطعام قال أبو عمر قوله حافلا يعني التي قد امتلأ ضرعها لبنا ومنه قيل مجلس حافل ومحتفل وإنما أخذت -والله أعلم- من غنم كلها لبون كما لو كانت كلها ربى أخذ منها أو لو كانت كلها مواخض أخذ منها ولكن عمر ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ كان شديد الإشفاق على المسلمين كالطير الحذر وهكذا يلزم الخلفاء فيمن أمروه واستعملوه الحذر منهم واطلاع أعمالهم وكان ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ إذا قيل له ألا تستعمل أهل بدر قال أدنسهم بالولاية ‏!‏ على أنه قد استعمل منهم قوما منهم سعد ومحمد بن مسلمة وروي عن حذيفة أنه قال لعمر إنك لتستعمل الرجل الفاجر فقال أستعمله لأستعين بقوته ثم أكون بعد قفاه يريد أستقصي عليه وأعرف ما يعمل به والدليل على أن الشاة الحافل لم تؤخذ إلا على وجهها أنه لم يأمر بردها ووعظ وحذر تنبيها ليوقف على مذهبه وينشر ذلك عنه فتطمئن نفوس الرعية ويخاف عاملهم‏.‏

وأما الحزرات فما غلب على الظن أنه خير المال وخياره وقال صاحب العين الحزرات خيار المال وقيل الحزرات كرائم الأموال وكذلك قال ‏(‏عليه الصلاة والسلام‏)‏ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن إياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم‏.‏

وأما قوله نكبوا عن الطعام فمأخوذ -والله أعلم- من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تحدث لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فكأنه قال نكبوا عن ذوات الدر وخذوا الجذعة والثنية حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا وكيع قال حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنك تأتي قوما أهل كتاب فذكر الحديث وفي آخره فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب ومن حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المعتدي في الصدقة كمانعها قال أبو عمر وقد وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب المواشي كما وعظ السعاة روي من حديث جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينصرف المصدق عنكم إلا وهو راض وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار في التمهيد وفي سماع أبي قرة قلت لمالك في قوله نكبوا عن الطعام فقال لي يريد اللبن‏.‏

وقال مالك لا يأخذ المصدق لبونا إلا أن تكون الغنم كلها ذات لبن فيأخذ حينئذ لبونا من وسطها ولا يأخذ حزرات الناس‏.‏

559- وذكر مالك أيضا في هذا الباب عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أنه قال أخبرني رجلان من أشجع أن محمد بن مسلمة الأنصاري كان يأتيهم مصدقا فيقول لرب المال أخرج إلي صدقة مالك فلا يقود إليه شاة فيها وفاء من حقه إلا قبلها وكان عمر بن الخطاب يبعثه ساعيا وهذا الحديث لا مدخل فيه للقول وليس فيه معنى مشكل يحتاج إلى تفسير وحسب كل من أعطى حقه أن يقبله والوفاء العدل في الوزن وغيره فإن أراد بالوفاء ها هنا الزيادة فلا أعلم خلافا بين العلماء أنه ينبغي للعامل على الصدقة إذا أعطاه رب المال فأوفى عليه أن يأخذ ذلك للمساكين ولا يرد ما أعطى لهم رب المال وليس ذلك له وقول مالك السنة عندنا والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أنه لا يضيق على المسلمين في زكاتهم وأن يقبل منهم ما دفعوا من أموالهم قال أبو عمر السنة عند الجميع إذا دفع أرباب الأموال ما يلزمهم فلا تضييق حينئذ على أحد منهم إنما التضييق أن يطلب منهم غير ما فرض عليهم فيما مضى من أقوال العلماء فيمن غنمه كلها جرباء أو ذوات عيوب أو صغار ما يبين لك معنى التضييق من غيره والله اعلم‏.‏

باب أخذ الصدقة ومن يجوز له أخذه

560- مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدي المسكين للغني تابع مالك على إرسال هذا الحديث سفيان بن عيينه وإسماعيل بن أمية ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الثوري عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال حدثني الليث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في التمهيد وفي هذا الحديث من الفقه ما يدخل في تفسير قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏)‏ ‏[‏التوبة 60‏]‏‏.‏

لأنه تفسير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجوز الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي لأن قوله هذا لا يحمل مدلوله على عمومه بدليل الخمسة الأغنياء المذكورين في حديث هذا الباب وأجمع العلماء على أن الصدقة المفروضة وهي الزكاة الواجبة على الأموال لا تحل لغني غير الخمسة المذكورين في هذا الحديث الموصوفين فيه وكان بن القاسم يقول لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد وينفقه في سبيل الله وإنما يجوز ذلك للفقير قال وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما بقي له ماله ويؤدي منها دينه وهو عنها غني قال وإن احتاج الغازي في غزوته وهو غني له مال غاب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئا واستقرض فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله هذا كله ذكره بن حبيب عن بن القاسم وزعم أن بن قانع وغيره خالفوه في ذلك وروى أبو زيد وغيره عن بن القاسم أنه قال في الزكاة يعطى منها الغازي وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله وهو غني في بلده وروى بن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ومن لزم مواضع الرباط فقراء كانوا أو أغنياء وذكر عيسى بن دينار في تفسير هذا الحديث قال تحل الصدقة للغازي في سبيل الله لو احتاج في غزوته وغاب عنه غناه ووبره ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة قال عيسى وتحل لعامل عليها وهو الذي يجمع من عند أرباب المواشي والأموال فهذا يعطى منها على قدر سعيه لا على قدر ما جمع من الصدقات والعشور ولا ينظر إلى الثمن وليس الثمن بفريضة قال وتحل لغارم غرما قد فدحه وذهب بماله إذا لم يكن غرمه في فساد ولا دينه في فساد مثل أن يستدين في نكاح أو حج أو غير ذلك من وجوه المباح والصلاح‏.‏

وأما الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وسائر أهل العلم فيما علمت فإنهم قالوا جائر للغازي في سبيل الله إذا ذهب نفقته وماله غائب عنه أن يأخذ من الصدقة ما يبلغه قالوا والمحتمل بحمالة في بر وإصلاح والمتداين في غير فساد كلاهما يجوز له أداء دينه من الصدقة وإن كان الحميل غنيا فإنه يجوز له أخذ الصدقة إذا وجب عليه أداء ما تحمل به وكان ذلك يجحف به قال أبو عمر من حجة الشافعي ومن ذهب مذهبه فيما وصفنا عنه ظاهر حديث مالك في هذا الباب وحديث قبيصة بن المخارق وقد ذكرناه بإسناد في التمهيد وفيه لا تحل الصدقة إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يصيب - يعني ما تحمل به - ثم يمسك فقوله ثم يمسك دليل على أنه غني لأن الفقير ليس عليه أن يمسك عن السؤال مع فقره ودليل آخر وهو عطفه ذكر الذي ذهب ماله وذكر الفقير ذي الفاقة على ذكر صاحب الحمالة فدل على أنه لم يذهب ماله ولم تصبه فاقة حتى يشهد له بها وقد أجمع العلماء على أن الصدقة تحل لمن عمل عليها وإن كان غنيا وكذلك المشتري لها بماله والذي تهدى إليه وإن كانوا أغنياء وكذلك سائر من ذكر في الحديث والله أعلم لأن ظاهر الحديث يشبه أن الخمسة تحل لهم الصدقة من بين سائر الأغنياء قال مالك الأمر عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي فأي الأصناف كانت فيه الحاجة والعدد أوثر ذلك الصنف بقدر ما يرى الوالي وعسى أن ينتقل ذلك إلى الصنف الآخر بعد عام أو عامين أو أعوام فيؤثر أهل الحاجة والعدد حيثما كان ذلك وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم قال مالك وليس للعامل على الصدقات فريضة مسماة إلا على قدر ما يرى الإمام قال أبو عمر اختلف العلماء من لدن التابعين في كيفية قسم الصدقات وهل هي مقسومة على من سماه الله في الآية وهل الآية إعلام منه تعالى لمن تحل له الصدقة وكان مالك والثوري وأبو حنيفة يقولون إنه يجوز أن توضع الصدقة في صنف واحد من الأصناف المذكورين في الآية يضعها الإمام فيمن شاء من تلك الأصناف على حسب اجتهاده وروي عن حذيفة وبن عباس أنهما قالا إذا وضعتها في صنف واحد أجزأك ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة وقد أجمع العلماء أن العامل عليها لا يستحق ثمنها وإنما له بقدر عمالته فدل ذلك على أنها ليست مقسومة على الأصناف بالسوية قال عبيد الله بن الحسن أحب أن لا يخلى منها الأصناف كلها‏.‏

وقال الشافعي هي سهمان ثمانية لا يصرف منها سهم ولا شيء عن أهله ما وجد من أهله أحد يستحقه ومن حجة الشافعي أن الله ‏(‏عز وجل‏)‏ جعل الصدقات في أصناف ثمانية فغير جائز أن يعطى ما جعله الله ‏(‏عز وجل‏)‏ لثمانية لصنف واحد كما لا يجوز أن يعطى ما جعله الله لثمانية لواحد وقد أجمعوا على أن رجلا لو أوصى لثمانية أصناف لم يجز أن يجعل ذلك في صنف واحد فكان ما أمر الله بقسمه على ثمانية أحرى وأولى أن يجعل في واحد وروي في ذلك حديث عن زياد بن الحارث الصدائي أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما رضي الله بقسمة أحد في الصدقات حتى قسمها على الأصناف الثمانية قال أبو عمر انفرد بهذا الحديث عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وقد ضعفه بعضهم‏.‏

وأما أهل المغرب مصر وإفريقية فيثنون عليه بالدين والعقل والفضل وقد روى عنه جماعة من الأئمة منهم الثوري وغيره وجملة قول الشافعي أن كل ما أخذ من المسلمين من زكاة مال أو ماشية أو حب أو زكاة أو معدن يقسم على ثمانية أسهم أو على سبعة وكذلك يكون لمن قسم زكاته على أهلها كما قسمها الله تعالى لا يختلف القسم فيه ولا يصرف سهم واحد منهم إلى غيره والواحد مردود إلى العامل قال أبو ثور أما زكاة الأموال التي يقسمها الناس عن أموالهم فإني أحب أن تقسم على ما أمكن ممن سمى الله تعالى إلا العاملين فليس لهم من ذلك شيء إذا قسمها ربها وإن أعطى الرجل زكاة ماله بعض الأصناف رجوت أن تسعها فأما ما صار إلى الإمام فلا يقسمه إلا فيمن شاء الله عز وجل قال أبو عمر قال الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏)‏ ‏[‏التوبة 60‏]‏‏.‏

فاختلف العلماء وأهل اللغة في المسكين والفقير فقال منهم قائلون الفقير أحسن حالا من المسكين قالوا والفقير الذي له بعض ما يقيمه والمسكين الذي لا شيء له واحتجوا بقول الراعي‏:‏

أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد

قالوا ألا ترى أنه قد أخبر أن لهذا الفقير حلوبة وممن ذهب إلى هذا بن السكيت وبن قتيبة وهو قول يونس بن حبيب وذهب قوم من أهل الفقه والحديث إلى أن المسكين أحسن حالا من الفقير واحتج قائل هذه المقالة بقوله تعالى ‏(‏أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر‏)‏ ‏[‏الكهف 79‏]‏‏.‏

فأخبر أن للمساكين سفينة في البحر وربما ساوت جملة من المال واحتجوا بقوله تعالى ‏(‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا‏)‏ ‏[‏البقرة 273‏]‏‏.‏

قالوا فهذه الحال التي وصف الله بها الفقراء دون الحال التي أخبر بها عن المساكين قالوا ولا حجة في بيت الراعي لأنه أخبر أن الفقير كانت له حلوبة في حال ما قالوا والفقير معناه في كلام العرب المفقور كأنه الذي نزعت فقرة من ظهره لشدة فقره فلا حال أشد من هذه واستشهدوا بقول الشاعر‏:‏

لما رأى لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير الأعزل

أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض قالوا وهذا هو شديد المسكنة واستدلوا بقوله تعالى ‏(‏أو مسكينا ذا متربة‏)‏ ‏[‏البلد 16‏]‏‏.‏

يعني مسكينا قد لصق بالتراب من شدة الفقر وهذا يدل على أنه إن لم يكن مسكينا فليس ذا متربة مثل الطواف وشبهه ممن له البلغة والساعي في الاكتساب بالسؤال وممن ذهب إلى أن المسكين أحسن حالا من الفقير الأصمعي وأبو جعفر أحمد بن عبيد وأبو بكر بن الأنباري وهو قول الكوفيين من الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه ذكر ذلك عنهم الطحاوي وهو أحد قولي الشافعي وللشافعي قول آخر أن الفقير والمسكين سواء ولا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم وإلى هذا ذهب بن القاسم وسائر أصحاب مالك في تأويل قول الله عز وجل ‏(‏إنما الصدقات للفقراء‏)‏ التوبة 60‏.‏

وأما أكثر أصحاب الشافعي فعلى ما ذهب إليه الكوفيون في هذا الباب وذكر بن وهب قال أخبرنا أشهل بن حاتم عن بن عون عن محمد بن سيرين قال قال عمر ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الفقير الأخلق الكسب قال أبو عمر قد بينا في التمهيد مثل قوله عليه قوله عليه السلام ليس المسكين بالطواف عليكم أن المعنى فيه ليس المسكين حق المسكين وأن من المساكين من ليس بطواف وأوضحنا هناك هذا المعنى بما فيه كفاية واختلفوا فيمن تحل له الصدقة من الفقراء وما حد الغنى الذي تحرم به الصدقة على من بلغه فقال مالك ليس لهذا عندنا حد معلوم وسنذكر مذهبه فيمن يحرم السؤال عليه فيمن لا تحل له الصدقة عند ذكر حديث الأسدي إن شاء الله رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد‏.‏

وأما الثوري فذهب إلى أن الصدقة لا تحل لمن يملك خمسين درهما على حديث بن مسعود وهو قول الحسن بن حي وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى من ملك مائتي درهم أنه تحرم عليه الصدقة المفروضة وحجتهم الحديث أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم‏.‏

وقال الشافعي للرجل أن يأخذ من الصدقة حتى يستحق أقل اسم الغنى وذلك حين يخرج من الفقر والمسكنة وعنده أن صاحب الدار والخادم الذي لا غنى به عنهما ولا فضل فيهما يخرجه إلى حد الغنى أنه ممن يحل له الصدقة وهذا نحو قول مالك في ذلك وبه قال أبو ثور والكوفيون وقال عبيد الله بن الحسن من لا يكون عنده ما يقيمه ويكفيه سنة فإنه يعطى من الصدقة واختلفوا في مقدار ما يعطى المسكين الواحد من الزكاة فقال مالك الأمر فيه مردود إلى الاجتهاد من غير توقيت وقد روي عنه أنه يعطى من له أربعون درهما أوعد لها ذهبا وقال الليث يعطى مقدار ما يبتاع به خادما إذا كان ذا عيال وكانت الزكاة كثيرة‏.‏

وأما الشافعي فلم يحد حدا واعتبر ما يرفع الحاجة وسواء كان ما يعطاه تجب فيه الزكاة أم لا لأن الزكاة لا يجب على مالك النصاب إلا بمرور الحول وكان أبو حنيفة يكره أن يعطى إنسان واحد من الزكاة مائتي درهم قال وإن أعطيته أجزأك ولا بأس أن تعطيه أقل من مائتي درهم وقال الثوري لا يعطى من الزكاة أحد أكثر من خمسين درهما وهذا قول الحسن بن حي وقول بن شبرمة كقول أبي حنيفة وكل من حد في أقل الغنى حدا ولم يحد فإنما هو ما لا غنى عنه من دار تحمله لا تفضل عنه أو خادم هو شديد الحاجة إليه وكلهم يجيز لمن كان له ما يكنه من البيوت ويخدمه من العبيد لا يستغنى عنه ولا فضل له من مال يتحرف به ويعرضه للاكتساب أن يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه ولا يكون غنيا به فقف على هذا الأصل فإنه قد اجتمع عليه فقهاء الحجاز والعراق وقد ذكرناه عن طائفة في التمهيد‏.‏

وأما قوله عز وجل ‏(‏والعاملين عليها‏)‏ ‏[‏التوبة 60‏]‏‏.‏

فلا خلاف بين فقهاء الأمصار أن العامل على الصدقة لا يستحق جزءا معلوما منها ثمنا أو سبعا أو سدسا وإنما تعطى بقدر عمالته‏.‏

وأما أقاويلهم في ذلك فقد تقدم قول مالك في موطئة ليس للعامل على الصدقة فريضة مسماة إلا على قدر ما يرى الإمام‏.‏

وقال الشافعي العاملون عليها المتولون قبضها من أهلها فأما الخليفة ووالي الإقليم الذي يولي أخذها عاملا دونه فليس له فيها حق وكذلك من أعان واليا على قبضها ممن به الغنى عن معونته فليس لهم في سهم العاملين وسواء كان العاملون عليها أغنياء أم فقراء من أهلها كانوا أو غرباء قال ولا سهم فيها للعاملين معلوم ويعطون لعمالتهم عليها بقدر أجور مثلهم فيما تكلفوا من المشقة وقاموا به من الكفاية‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه يعطى العاملون على ما رأى الإمام‏.‏

وقال أبو ثور يعطى العاملون بقدر عمالتهم كان دون الثمن أو أكثر ليس في ذلك شيء موقت‏.‏

وأما قوله عز وجل ‏(‏والمؤلفة قلوبهم‏)‏ ‏[‏التوبة 60‏]‏‏.‏

فقال مالك لا مؤلفة اليوم وقال الثوري أما المؤلفة قلوبهم فكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه المؤلفة قلوبهم قد سقط سهمهم وليس لأهل الذمة في بيت المال حق‏.‏

وقال الشافعي المؤلفة قلوبهم من دخل في الإسلام من ولاء ولا يعطى من الصدقة مشرك ليتألف على الإسلام ولا يعطى إن كان مسلما إلا إذا نزل بالمسلمين نازلة لا تكون الطاعة للوالي قائمة فيها ولا يكون من يتولى الصدقة قويا على استخراجها إلا بالمؤلفة أو تكون بلاد الصدقة ممتنعة بالبعد وكثرة الأهل فيمتنعون عن الأذى ويكونوا قوما لا يوثق بثباتهم فيعطون منها الشيء على الاجتهاد من الإمام لا يبلغ اجتهاده في حال أن يزيدهم على سهم المؤلفة قلوبهم ولينقصهم منه إن قدر حتى يقوى بهم على أخذ الصدقات من أهلها‏.‏

وقال أبو ثور مثله‏.‏

وأما قوله عز وجل ‏(‏وفي الرقاب‏)‏ ‏[‏التوبة 60‏]‏‏.‏

فقال مالك والأوزاعي لا يعطى المكاتب من الزكاة شيئا لأنه عبد ما بقي عليه درهم والعبد لا يعطى منها موسرا كان أو معسرا ولا من الكفارات من أجل أن ملك العبد عنده غير مستقر ولسيده انتزاعه هذا في الكفارات‏.‏

وأما في المكاتب فإنه ربما عجز فصار عبدا قال مالك ولا يعتق من الزكاة إلا رقبة مؤمنة ومن اشترى من زكاته رقبة مؤمنة فأعتقها كان ولاؤها لجماعة المسلمين وهو قول عبيد الله بن الحسن‏.‏

وقال أبو ثور لا بأس أن يشتري الرجل الرقبة من زكاته فيعتقها على عموم الآية‏.‏

وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وبن شبرمة لا يجزئ العتق من الزكاة ومعنى قول الله تعالى عندهم ‏(‏وفي الرقاب‏)‏ هم المكاتبون فإن أعطى المكاتب في أخذ كتابته ما يتم به عتقه كان حسنا وإن أعطاه في غير تلك الحال ثم عجز أجزته وقد روي عن مالك أنه يعان المكاتب وهو قول الطبري والأول هو تحصيل مذهب مالك‏.‏

وقال الشافعي الرقاب المكاتبون من جيران الصدقة فإن اتسع لهم السهم أعطو حتى يعتقوا وإن دفع ذلك الوالي إلى من يعتقهم فحسن وإن دفعه إليهم أجزأه‏.‏

وأما قوله عز وجل ‏(‏والغارمين‏)‏ ‏[‏التوبة 60‏]‏‏.‏

فقد مضى قول بن القاسم في ذلك في صدر هذا الباب قال الشافعي الغارمون صنفان صنف أدانوا في مصلحة ومعروف وصنف دانوا في حمالات وصلاح ذات بين فيعطون منها ما تقضى به ديونهم إن لم تكن لهم عروض تباع في الديون‏.‏

وأما قوله تعالى ‏(‏وفي سبيل الله‏)‏ ‏[‏التوبة 60‏]‏‏.‏

فقال مالك وأبو حنيفة في سبيل الله مواضع الجهاد والرباط وقال أبو يوسف هم الغزاة وقال محمد بن الحسن من أوصى بثلثه في سبيل الله فللوصي أن يجعله في الحاج المنقطع به في سبيل الله وهو قول بن عمر عنده الحجاج والعمار‏.‏

وقال الشافعي في سهم سبيل الله يعطى منه من أراد الغزو من جيران أهل الصدقة فقيرا كان أو غنيا ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين لأنه يدفع عن جماعة أهل الإسلام‏.‏

وأما قوله تعالى ‏(‏وبن السبيل‏)‏ ‏[‏التوبة 60‏]‏‏.‏

فقال مالك بن السبيل المسافر في طاعة ففقد زاده فلا يجد ما يبلغه وروي عنه أن بن السبيل الغازي وهو المشهور في مذهبه‏.‏

وقال الشافعي بن السبيل من جيران الصدقة الذين يريدون السفر في غير معصية فيعجزون عن بلوغ سفرهم إلا بمعونة عليه والمعنى فيه عند العلماء يتفاوت على ما قدمنا وأجمعوا على أنه لا يؤدى من الزكاة دين ميت ولا يكفن منها ولا يبنى منها مسجد ولا يشترى منها مصحف ولا يعطى لذمي ولا مسلم غني ولهم فيمن أعطى الغني والكافر وهو غير عالم قولان أحدهما أنه يجزئ والآخر أنه لا يجزئ‏.‏

باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيه

561- ذكر مالك أنه بلغه أن أبا بكر الصديق قال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه قال أبو عمر هذا فيه حديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق قال أبو عمر رواه بن وهب عن يونس عن الزهري فقال عقالا كما قال عقيل قال أبو عمر قوله وكفر من كفر من العرب لم يخرج على كلام عمر لأن كلام عمر إنما خرج على من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ومنع الزكاة وتأولوا قوله تعالى ‏(‏ خذ من أموالهم صدقة‏)‏ ‏[‏التوبة 103‏]‏‏.‏

فقالوا المأمور بهذا رسول الله لا غيره وكانت الردة على ثلاثة أنواع قوم كفروا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان وقوم آمنوا بمسيلمة وهم أهل اليمامة وطائفة منعت الزكاة وقالت ما رجعنا عن ديننا ولكن شححنا على أموالنا وتأولوا ما ذكرناه بدأ أبو بكر رضي الله عنه قتال الجميع ووافقه عليه جميع الصحابة بعد أن كانوا خالفوه في ذلك لأن الذين منعوا الزكاة قد ردوا على الله قوله تعالى ‏(‏فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏)‏ ‏[‏البقرة 43‏]‏‏.‏

وردوا على جميع الصحابة الذين شهدوا التنزيل وعرفوا التأويل في قوله عز وجل ‏(‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم‏)‏ ‏[‏التوبة 103‏]‏‏.‏

ومنعوا حقا واجبا لله على الأئمة القيام بأخذه منهم واتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على قتالهم حتى يؤدوا حق الله في الزكاة كما يلزمهم ذلك في الصلاة إلا أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم أجرى فيهم حكم من ارتد من العرب تأويلا واجتهادا فلما ولي عمر بن الخطاب رأى أن النساء والصبيان لا مدخل لهم في القتال الذي استوجبه مانع الزكاة حق الله وفي الأغلب أنهم لا رأي لهم في منع الزكاة فرأى أنه لا يجوز أن يحكم فيهم بحكم المانعين للزكاة والمقاتلين دونها الجاحدين لها وعزر أبا بكر باجتهاده ولم يسعه في دينه أو بان له ما بان من ذلك أن يسترقهم بعدائهم وأطلق سبيلهم وذلك أيضا بمحضر الصحابة من غير نكير وهذا يدل على أن كل مجتهد معذور وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدا كل امرأة وصبي كان بأيدي من سباه منهم وخير المرأة إن أرادت أن تبقى على نكاحه ينكحها الذي سباها بعد الحكم بعتقها‏.‏

وأما العقال فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى هو صدقة عام وقال غيره هو عقال الناقة التي تعقل به وخرج كلامه على التقليل والمبالغة وقال بن الكلبي كان معاوية قد بعث عمرو بن عتبة بن أخيه مصدقا فجاز عليهم فقال شاعرهم‏:‏

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا *** فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

وهذا حجة أن العقال صدقة سنة ومن رواه عناقا فإنما أراد التقليل أيضا لأن العناق لا يؤخذ في الصدقة عند طائفة من أهل العلم ولو كانت الغنم عناقا كلها وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في المسند قال حدثني أبي قال حدثنا زكريا بن عدي قال أخبرني عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن القاسم عن علي بن حسين قال حدثتنا أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فجاء رجل فقال يا رسول الله كم صدقة كذا وكذا قال كذا وكذا قال فإن فلانا تعدى علي قال فنظروا فوجدوه قد تعدى بصاع فقال النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بكم إذا سعى من يتعدى عليكم أشد من هذا التعدي قال أبو عمر كان يبكي ما يحل بأمته من بعده صلى الله عليه وسلم وذكر أبو يحيى زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي في كتاب أحكام القرآن له قال حدثنا عبد الواحد بن غياث قال حدثنا أشعث بن براز قال جاء رجل إلى الحسن فقال إني رجل من أهل البادية وإنه يبعث علينا عمال يصدقوننا ويظلموننا ويعتدون علينا ويقومون الشاة بعشرة وقيمتها ثلاثة ويقومون الفريضة مائة وثمنها ثلاثون فقال الحسن إن الصدقة لا تؤخذ إلا عفوا ولا تزاد إلا عفوا من أداها سعد بها ومن بخل بها شقي إن القوم والله لو أخذوها منكم ووضعوها في حقها وفي أهلها ما بالوا كثيرا أديتم أو قليلا ولكنهم حكموا لأنفسهم وأخذوا لها قاتلهم الله أنا يؤفكون يا سبحان الله ما لقيت هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم من منافق قهرهم واستأثر عليهم‏.‏

562- مالك عن زيد بن أسلم أنه قال شرب عمر بن الخطاب لبنا فأعجبه فسأل الذي سقاه من أين هذا فأخبره أنه ورد على ماء قد سماه فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون فحلبوا لي من ألبانها فجعلته في سقائي فهو هذا فأدخل عمر بن الخطاب يده فاستقاءه قال أبو عمر محملة عند أهل العلم أن الذي سقاه اللبن لما لم يكن من ماله وعلم أنه كان من مال الصدقة وكان عمر غنيا لا تحل الصدقة له وكان الذي سقاه إياه لم يملك اللبن ولم يكن من الذي يحل له الصدقة فاستقاءه ولم يبق في جوفه شيئا لا يحل له وهو قادر على دفعه ولم يقدر على أكثر من ذلك لأنه لم يكن كذلك اللبن ملك لمعين يعوضه منه أو يستحله وهو شأن أهل الورع والفضل والدين على انه لم يشربه إلا غير عامد ولا عالم وقد قال الله عز وجل ‏(‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم‏)‏ ‏[‏الأحزاب 5‏]‏‏.‏

ولكنه لما علم أن الأموال تضمن بالخطأ ولم يجد مالكا يستحله منه أو يعوضه ولا كان ساقيه له ممن يصح له ملك الصدقة فيعد ذلك اللبن هدية منه له - كما عد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهدت إليه بريرة من اللحم الذي تصدق به عليها فحل ذلك له لصحة ملك بريرة لما تصدق به عليها - لم يجد بدا من استقاءته ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ ومع هذا كله فلعله قد أعطى مثل ما حصل في جوفه من اللبن أو قيمته للمساكين فهذا أشبه وأولى به إن شاء الله قال مالك الأمر عندنا أن كل من منع فريضة من فرائض الله عز وجل فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء أن للإمام المطالبة بالزكاة وأن من أقر بوجوبها عليه أو قامت عليه بها بينة كان للإمام أخذها منه وعلى هذا يجب على من امتنع من أدائها ونصب الحرب دونها أن يقاتل مع الإمام فإن أتى القتال على نفسه فدمه هدر ويؤخذ منه ماله وقد أجمعوا في الرجل يقضي عليه القاضي بحق لآخر فيمتنع من أدائه فواجب على القاضي أن يأخذه من ماله فإن نصب دونه الحرب قاتله حتى يأخذه منه وإن أتى القتال على نفسه فحق الله الذي أوجبه للمساكين أولى بذلك من حق الآدمي وقول مالك ‏(‏رحمه الله‏)‏ عنده فيمن منع فريضة من فرائض الله ‏(‏عز وجل‏)‏ أن يجاهد إن لم يقدر على أخذها منه إلا بذلك هو معنى قول أبي بكر ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ولذلك رأى جماعة من أهل العلم قتل الممتنع من أداء الصلاة وقد أوضحنا ذلك في كتاب الصلاة وقول أبي بكر فإن الزكاة حق المال تفسير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحقها وحسابهم على الله يقول إن الزكاة من حقها وبالله التوفيق‏.‏

563- مالك أنه بلغه أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه يذكر أن رجلا منع زكاة ماله فكتب إليه عمر أن دعه ولا تأخذ منه زكاة مع المسلمين قال فبلغ ذلك الرجل فاشتد عليه وأدى بعد ذلك زكاة ماله فكتب إليه عمر أن خذها منه قال أبو عمر إن صح هذا عن عمر بن عبد العزيز فيحتمل -والله أعلم- أنه لم يعلم من الرجل إلا انه أبى من دفعها إلى عامله دون منعها من أهلها وأنه لم يكن عنده ممن يمنع الزكاة أو تفرس فيه فراسة المؤمن أنه لا يخالف جماعة المسلمين ببلده الدافعين لها إلى الإمام فكان كما ظن ولو صح عنده منعه للزكاة ما جاز له أن يتركها حتى يأخذها منه فهو حق للمساكين يلزمه القيام به لهم وهذا الباب فيمن منع الزكاة مقرى بها‏.‏

وأما من منعها جاحدا لها فهي ردة بإجماع ويأتي القول في المرتد في بابه إن شاء الله وقد مضى في كتاب الصلاة ما فيه شفاء في هذا المعنى وليس من منع الزكاة كمن أبى من عمل الصلاة إذا حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا علي بن سعيد قال حدثنا أبو رجاء سعيد بن حفص البخاري قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن بن عباس - قال حماد ولا أظنه إلا رفعه - قال عد الإسلام - أو قال عد الدين - وقواعده التي بني الإسلام عليها من ترك منهن واحدة فهو حلال الدم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم رمضان ثم قال بن عباس تجده كثير المال ولا يزكي فلا يكون بذلك كافرا ولا يحل دمه وتجده كثير المال ولا يحج فلا تراه بذلك كافرا ولا يحل دمه‏.‏

باب زكاة ما يخرص من ثمار النخيل والأعناب

564- ذكر فيه مالك ‏(‏رحمه الله‏)‏ عن الثقة عنده عن سليمان بن يسار وعن بسر بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر قال أبو عمر هذا الحديث وإن كان في الموطأ منقطعا وبلاغا فإنه يتصل من وجوه صحاح ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بن عمر وجابر ومعاذ وأنس وقد ذكرتها عنهم في التمهيد قال يحيى بن آدم ‏(‏البعل‏)‏ ما كان من الكروم والنخل قد ذهبت عروقه في الأرض إلى الماء ولا يحتاج إلى السقي الخمس سنين والست يحتمل ترك السقي قال و‏(‏العثري‏)‏ ما يزرع على السحاب ويقال له أيضا العثير لأنه لا يسقى إلا بالمطر خاصة وفيه جاء الحديث ما سقي عثريا أو غيلا قال والغيل سيل دون السيل الكثير قال بن السكيت الماء الجاري على الكرم والغرب الدلو ومنه الحديث فيما سقي بالغرب والنضح وقال النضر بن شميل ‏(‏البعل‏)‏ ماء المطر ثم ذكر نحو قول يحيى بن آدم وقال أبو عبيد وغيره ‏(‏البعل‏)‏ ما شرب بعروقه من الأرض من غير سقي سماء ولا غيرها وفيه يقول النابغة‏:‏

من الواردات الماء بالقاع تستقي *** بأعجازها قبل استقاء الحناجر

فإذا سقته السماء فهو عذي قال عبد الله بن رواحة‏:‏

هنالك لا أبالي طلع بعل *** ولا نخل أسافلها رواء

وما سقته العيون والأنهار فهو سيح وغيل والعذي هو العثري وهذا ينصرف على ثلاثة أوجه بعل وغيل وسقي وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر فما سقته السماء عيون وعثري وما سقت الأنهار والعيون غيل وسيح وسقي والبعل ما شرب بعروقه من ثراء الأرض والنضح ما سقي بالسواقي والدلو والدالية ما كان نضحا فمؤنته أشد ولذلك كان فيه نصف العشر وأجمع العلماء على القول بظاهره في المقدار المأخوذ من الشيء المزكى وذلك العشر في البعل كله من الحبوب وكذلك الثمار التي تجب فيها الزكاة عندهم كل على أصله وكذلك ما سقت العيون والأنهار لأن المؤنة قليلة وكذلك أيضا وردت السنة‏.‏

وأما ما سقي بالسواقي والدوالي فنصف العشر فيما تجب فيها الزكاة عندهم كل أيضا على أصله وسنبين أصولهم فيما فيه الزكاة عندهم في هذا الباب إن شاء الله واختلفوا في معنى آخر من هذا الحديث فقالت طائفة هذا الحديث يوجب العشر في كل ما زرعه الآدميون من الحبوب والبقول وكل ما أنبتته أشجارهم من الثمار كلها قليل ذلك وكثيره يؤخذ منه العشر أو نصف العشر على ما في هذا الحديث عند جذاذه وحصاده وقطافه كما قال الله تعالى ‏(‏وءاتوا حقه يوم حصاده‏)‏ ‏[‏الأنعام 141‏]‏‏.‏

وذلك العشر أو نصف العشر وممن ذهب إلى هذا حماد بن سليمان ذكر ذلك عنه شعبة وأبو حنيفة وإليه ذهب أبو حنيفة وزفر في قليل ما تخرجه الأرض أو كثيره إلا الحطب والقصب والحشيش وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء فيما تخرجه الأرض إلا ما كان له ثمرة باقية ثم تجب فيما يبلغ خمسة أوسق ولا تجب فيما دونها وذكر عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل قال كتب عمر بن عبد العزيز أن يؤخذ مما تنبت الأرض من قليل أو كثير العشر واعتبر مالك والثوري وبن أبي ليلى والليث والشافعي وأحمد وإسحاق خمسة أوسق‏.‏

وقال مالك الحبوب التي فيها الزكاة الحنطة والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والحمص والعدس والجلبان واللوبيا والجلجلان وما أشبه ذلك من الحبوب التي تصير طعاما تؤخذ منها الصدقة بعد أن تحصد وتصير حبا قال وفي الزيتون الزكاة وقال الأوزاعي مضت السنة في الزكاة في التمر والعنب والشعير والسلت والزيتون فيما سقت السماء والأنهار أو كان بعلا العشر وفيما سقي بالرشاء والناضح نصف العشر وقال الثوري وبن أبي ليلى ليس في شيء من الزروع والثمار زكاة إلا التمر والزبيب والحنطة والشعير وهو قول الحسن بن حي‏.‏

وقال الشافعي إنما تجب الزكاة فيما ييبس ويدخر ويقتات مأكولا ولا شيء في الزيتون لأنه إدام‏.‏

وقال أبو ثور مثله وقال أبو داود أما ما يوسق ويجري فيه الكيل فيعتبر فيه خمسة أوسق ولا زكاة فيما دونها‏.‏

وأما ما لا يوسق ففي قليله وكثيره العشر أو نصف العشر‏.‏

565- مالك عن زياد بن سعد عن بن شهاب أنه قال لا يؤخذ في صدقة النخل الجعرور ولا مصران الفارة ولا عذق بن حبيق قال وهو يعد على صاحب المال ولا يؤخذ منه في الصدقة قال مالك ومثل ذلك مثل الغنم تعد بسخالها ولا يؤخذ السخل في الصدقة وهذا الحديث ذكره بن وهب في موطئه فقال حدثني عبد الجليل بن حميد عن بن شهاب قال أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في هذه الآية ‏(‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏)‏ ‏[‏البقرة 267‏]‏‏.‏

قال الجعرور ولون الحبيق قال وكان ناس يتيممون شر غلاتهم فيخرجونها في الصدقة فنهوا عن لونين الجعرور ولون الحبيق قال ونزلت ‏(‏ولا تيمموا‏)‏ ‏[‏البقرة 267‏]‏‏.‏

قال أبو عمر قد أسنده عن بن شهاب سليمان بن كثير وسفيان بن حسين فروياه عن بن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا إسحاق قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لونين الجعرور ولون الحبيق وذكر تمام الخبر في معنى قول بن شهاب في الجعرور ولون الحبيق وقال سليمان بن كثير في حديثه وفيه نزلت ‏(‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏)‏ البقرة وقال الحسن كان الرجل يتصدق برذالة ماله فنزلت هذه الآية وروي هذا المعنى عن جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن وأجل من روي عنه ذلك البراء بن عازب قال أبو عمر هذا باب مجتمع عليه أنه لا يؤخذ هذان النوعان في الصدقة للتمر عن غيرهما فإن لم يكن معهما غيرهما أخذ منهما وكذلك الدني كله لا يؤخذ منه إذا كان معه غيره لأنه حينئذ يتيمم الخبيث إذا أخرج عن غيره فإن كان الثمر نوعين رديئا وجيدا أخذ من كل بحسابه ولم يؤخذ من الرديء عن الجيد ولا من الجيد عن الرديء وهذا كله معنى قول مالك والشافعي والكوفي وإن كان التمر أصنافا أخذ من الوسط قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يخرص من الثمار إلا النخيل والأعناب فإن ذلك يخرص حين يبدو صلاحه ويحل بيعه وذلك أن ثمر النخيل والأعناب يؤكل رطبا وعنبا فيخرص على أهله للتوسعة على الناس ولئلا يكون على أحد في ذلك ضيق فيخرص ذلك عليهم ثم يخلى بينهم وبينه يأكلونه كيف شاؤوا ثم يؤدون منه الزكاة على ما خرص عليهم‏.‏

وقال الشافعي في ذلك كقول مالك سواء في الكتاب المصري وقال بالقران يخرص الكرم والنخل فالحب والزيتون قياسا على النخل والعنب واتباعا لأنا وجدنا عليه الناس قلنا ولم يختلف مالك والشافعي وغيرهما في أن الحبوب كلها لا يخرص شيء منها وإنما اختلفا في الزيتون فمالك يرى الزكاة فيه من غير خرص ‏(‏على ما يأتي في الباب بعد هذا إن شاء الله‏)‏ وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد الخرص باطل ليس بشيء وعلى رب المال أن يؤدي عشره زاد أو نقص قال أبو عمر جمهور العلماء على أن الخرص للزكاة في النخل والعنب معمول به سنة معمولة ولم يختلفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرسل عبد الله بن رواحة وغيره إلى خيبر وغيرها يخرص الثمار والقول بأن ذلك منسوخ بالمداينة شذوذ وكذلك شذ داود فقال لا يخرص إلا النخل خاصة ودفع حديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد وقال إنه منقطع لن يسمع منه ولا يأتي خرص العنب إلا في حديث عتاب المذكور وقال الليث لا يخرص إلا التمر والعنب وأهله أمناء على ما رفعوا إلا أن يهتموا فينصب للسلطان أمينا وقال محمد بن الحسن فيما روى عنه أصحاب الإملاء يخرص الرطب تمرا أو العنب زبيبا فإذا بلغ خمسة أوسق أخذ منهم العشر أو نصف العشر وإن لم يبلغ خمسة أوسق في الخرص لم يؤخذ منه شيء فأما قول مالك أما الحبوب لا تخرص فهو ما لا خلاف فيه بين العلماء وإنما اختلفوا فيما وصفنا‏.‏

وأما قوله في الجائحة أن الناس أمناء فيما يدعون منها فهذا لا خلاف فيها إلا أن يتبين كذب من يدعي ذلك فإن لم يبن كذبه وأوهم أحلف‏.‏

وأما ما يأكله الرجل من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجذاذ والقطاف فقد اختلف العلماء هل يحسب ذلك عليه أم لا فقال مالك والثوري وأبو حنيفة وزفر يحسب عليه وقال أبو يوسف ومحمد إذا أكل صاحب الأرض وأطعم جاره وصديقه أخذ منه عشر ما بقي من الخمسة الأوسق التي فيها الزكاة ولا يؤخذ مما أكل وأطعم ولو أكل الخمسة الأوسق لم يجب عليه عشر فإن بقي منها قليل أو كثير فعليه نصف ما بقي أو نصف العشر وقال الليث في زكاة الحبوب يبدأ بها قبل النفقة وما أكل كذلك هو وأهله فلا يحسب عليه بمنزلة الرطب الذي ترك لأهل الحائط يأكلونه ولا يخرص عليهم‏.‏

وقال الشافعي يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله رطبا لا يخرصه عليهم وما أكله وهو رطب لم يحسب عليه قال أبو عمر احتج الشافعي ومن وافقه بقول الله تعالى ‏(‏كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده‏)‏ ‏[‏الأنعام 141‏]‏‏.‏

واستدلوا على أنه لا يحسب المأكول قبل الحصاد بهذه الآية واحتجوا بقوله عليه السلام إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع قال أبو عمر روى شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال سمعت عبد الرحمن بن مسعود بن نيار يقول جاء سهل بن أبي حثمة إلى مسجدنا فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع ومن حديث بن لهيعة وغيره عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خففوا في الخرص فإن في المال العرية والواطئة والأكلة والوصية والعامل والنوائب وروى الثوري عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار قال كان عمر بن الخطاب يأمر الخراص أن إخرصوا وارفعوا عنهم قدر ما يأكلون ولم يعرف مالك قدر هذه الآثار ومن الحجة له ما روى سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا حثمة خارصا فجاء رجل فقال يا رسول الله ‏!‏ إن أبا حثمة قد زاد علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بن عمك يزعم أنك زدت عليه فقال يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما تطعمه المساكين وما تسقط الريح فقال قد زادك بن عمك وأنصفك فاحتج الطحاوي لأبي حنيفة ومالك فإن قال في هذا الحديث إنما ترك الذي ترك للعرايا والعرايا صدقة فمن هنا لم تجب فيها صدقة وهذا تعنيد من القول وظاهر الحديث بخلافه على أن مالكا يرى الصدقة في العرية إذا أعراها صاحبها قبل أن يطيب أول تمرها على المعري فإن عراها بعد فهي على المعرا إذا بلغت خمسة أوسق‏.‏

وأما ما احتج به الشافعي من قوله عز وجل ‏(‏كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده‏)‏ ‏[‏الأنعام 141‏]‏‏.‏

واستدل بأن المأكول أخضر لا يراعى في الزكاة بهذه الآية فقد يحتمل عند مخالفة أن يكون معنى الآية آتوا حق جميع المأكول والباقي والظاهر مع الشافعي والآثار‏.‏

وأما الخبر في الخرص لإحصاء الزكاة والتوسعة على الناس في أكل ما يحتاجون إليه من رطبهم وعنبهم فذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت ‏(‏وذكرت شأن خيبر‏)‏ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى اليهود فيخرص النخل حين يطيب أول التمر قبل أن يؤكل منه ثم يخير اليهود بأن يأخذوها بذاك الخرص أو يدفعونها إليهم بذلك وإنما كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفترق قال أبو عمر يقال إن قوله في هذا الحديث وإنما كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى إلى آخره من قول بن شهاب وقيل من قول عروة وقيل من قول عائشة ولا خلاف في ذلك بين العلماء القائلين بالخرص لإحصاء الزكاة وكذلك لا خلاف بينهم أن الخرص على هذا الحديث في أول ما يطيب التمر ويزهى بحمرة أو صفرة وكذلك العنب إذا جرى فيه الماء وطاب أكله‏.‏